الفجر
4:00
السبت 27 يونيه 2024 م

إنحِسارُ البهجة

   بواسطة : محمد بن مصلح ( أبو مشاري ) 2024-03-07

 

كتبه : أبو مشاري 

عندما كنت طفلاً صغيراً ثم يافعاً ثم شاباً ثم بلغت الأشُدّ كنت أرى جماليات الحياة بمنظار آخر يختلف عن منظار رجلٍ سار في عقده الخامس أو السادس .

أتذكر وأنا بمعيّة رفاق الطفولة في قريتي الصغيرة الحالمة ( آل شعران بالحنيك ) كنت أرى كل شيءٍ جميلا .

فأبتهجُ لقُرب يوم العيد ، وأغرِّد لنتيجتي الدراسية ، وأسعد بإقتراب عصر كل يوم فأنا سأذهب لإحدى الساحات بالقرية وألعب كرة القدم مع أبناء القرية ذوي الوجوه المعتادة والمستويات المعروفة ، وجميلٌ أكثر أن أكون كابتن فريقي في بعض الأحايين فأبلغ شأوًا لم يبلغه غيري سوى لاعب النادي الأهلي أمين دابو الذي كنت أشجع الأهلي إعجاباً بمراوغاته وفنّياته .

وكم تعالت فرحتي ولم أكن أستطيع النوم تلك الليلة وأنا على موعدِ سَفرٍ مع والدي إلى جدة صبيحة اليوم التالي حينما كنت طالباً في الصف الرابع الإبتدائي ، ثم أستمتعت بالركوب مع والدي في قَمرة ( المورسدس ) الذي كان يقودها ويملكها حينئذٍ عايض بن مسرع من الحُصُنة عليه رحمة الله ، ثم تسلّقت لاحقاً جنب السيارة وأستقريت في ( برندة ) الشاحنة سادلاً ساقَيَّ النحيلتين فوق ( التندة ) وكأنني في ملاهي ديزني لاند والسيارة تشُقّ طريقها بين جبال شُمرخ والهدا .

كم كانت تتسامى سعادتي إذا عرفت أنا لدينا أو جيراننا ضيوف تلكم الليلة .

كنت أفرح بالثوب الجديد والساعة ثم السيارة حين أهداها لي والدي حفظه الله وأنا في الصف الثاني متوسط لأذهب فيها وشقيقي أبو مهند والجار ذو القربى أبو ممدوح إلى مدرسة آل سليمان المتوسطة بآل شريح .

أقول أن جوانب البهجة كانت تحفُّنا من كل جانب رغم ظروف الحياة التي كانت أقسى من هذا الزمان ..

أما اليوم - وقد لمَست هذا كثيراً من غيري - فإن مباهج الحياة قد أنحسرت في النفوس رغم تزايدها على الطبيعة ، فيندر أن نبتهج ، أو نغرد فرحاً ، أو نترقّب أمراً ما بلهَف ..

وعندما أتأمل في ذلك الإنحسار أجده طبيعياً لدى كل إنسان ، فسعادة الطفل والشاب بالأمور والأشياء تكون في قمّتها خلال هذه المراحل من عمره ، وقد يكون مَرَدُّ ذلك للآتي :

- أن كل شيء يحدث فهو جديد في بدايات العمر أو غير معتاد فتبتهج النفس بهذا الزائر الجميل الغريب .

- أن النفس الشابة لازالت ذا سعةٍ من تزاحم المغريات والمبهجات فتلقَف كل حدَثٍ بنهمٍ وتذوّق .

- أن الرجل بعد الأربعين قد تنخفض لديه هرمونات السعادة كالأندروفين وغيره ، فيكون المزاج لديه مُعَكّراً لا يكاد يرضيه ويسعده شيء بالسهولة كما كان ، وذلك حسب درجة إنخفاض هرمونات السعادة .

- أن النفوس قد تشبّعت وتكدست بدواخلها منوّعات السعادة والمباهج فما يأتي لم يعُد يثير تلك النفوس المُترَفة ، يقول الشاعر :

وما السعادة في الدنيا سوى شَبَحٌ ..

يُرجَى فإن صار جسمًا ملّه البشرُ

لم يَسعَد الناسُ إلا في تشوّقهم ..

 إلى المنيع فإن صاروا به فتروا

ولذلك فعلى من تجاوز عمرُه الأربعين أو الخمسين والستين وأعلى إذا وجد نفسه لم تعُد تستسيغ البهجة كما كانت عليه أن يعوّض ذلك التراجع بالتقرّب أكثر إلى الله بالعبادات والتقوى والأذكار وقراءة القرآن ، وأن يقتنع بما قسم الله له حتى يجد القادم له بمثابة إضافة لم تكن محسوبة ، وأن يصطنع السعادة إصطناعاً فينظر للجوانب المضيئة لكل شيء فيصنع لنفسه سعادةً من خلال هذا الجانب ويتناسى الظلام ، وأن يبتعد عن الأصحاب ذوي النظرات السوداوية المتشائمة ، وأن يتلذذ بأطايب المُتَع الحلال ، وأن يحاول حتى الإستمتاع بالكلام الجميل من مفردات ونصوص نثرية أو شِعرية ، وأن يركز على نظافة جسده وملبسه وبيته وسيارته وكل مقتنياته فذلك يبعث السرور ، عكس إهمال هذا الجانب فهو يثير الكآبة والتوتر ويقتل المتعةَ المطلوبة للنفس .

ودمتم سعداء