الفجر
4:00
الإثنين 20 مايو 2024 م

مُجارةُ الزمَن

   بواسطة : محمد بن مصلح ( أبو مشاري ) 2023-10-09

كتبه : أبو مشاري 

---------------------

هي عجلةُ الزمن ، تدورُ وتظَلُّ تدورُ دون توقفٍّ ما شاء الله لها أن تكون .. تغادرُ أجيالٌ وتأتي أجيال ، وتزولُ حضاراتٌ وتنشأ حضاراتٌ بديلة ، وكلُّ شيءٍ يتغيّرُ ويتطور .. لو أتينا بشيخٍ من الماضي يطِلُّ على الحاضرِ لوقفَ مشدوهاً قد لا يقوى معه على الكلام من غرابةِ ما يرى ، فهذه طائراتٌ تُحلِّقُ في السماءِ تحمل بشراً في جوفها ، فيجلس أحدُهم على كرسي الطائرةِ في مدينةِ جدة ، وحين ينهضُ واقفاً من كرسيه ذاك يجدُ نفسَه يمشي في مطارِ مدينةِ لوس أنجلس في أقصى غربِ الأرض .. ورجلٌ يحتاجُ مالاً وهو يسير في الطريق فيميل إلى الجدارِ المُطِلِّ على الطريقِ فيمدّ يدُه إلى إحدى الخزنات التي تأخذُ مكانَها في جوفِ ذلك الجدارِ فتخرجُ منها نقودٌ حلالٌ عليه ويمضي في طريقِه .. أحدُنا يحتاجُ إلى الماء فبدلاً أن يذهبَ لأحدِ الآبارِ فيُدلي دلوَه ويحمِلُ الماءَ فوقَ رأسِه ليجلبَه لبيته ، بدلاً من ذلك يتّجه لمطبخِ بيتِه أو لبيتِ الخلاءِ حسب الحاجةِ فيفتحُ صنبوراً في جدارٍ صلْدٍ أصمٍّ فيتدفق منه الماءُ زلالاً غَدَقا .. ليس هذا فقط ، فهناك شواهدُ كثيرةٌ على متغيراتِ الزمنِ التي أنعمَ الله بها علينا ولا حصرَ لها . . ومع كل هذه المتغيراتِ المتسارعةِ في جيلٍ واحدٍ كجيلِنا المُخضرمِ هذا .. كان لا بد أن نجاري زمانَنا ومخرجاتِه العصريةَ حتى نستفيدَ منها على أكمل وجه ..

يعجبُني رجلٌ في هذا الزمان في السبعينات أو الثمانينات أو التسعينات من عمرِه يجيدُ التعاملَ مع الحاسبِ الآليِّ وجهازِ الجوالِ ومعظمِ الأجهزةِ الحديثة ، وتراهُ يجيدُ إستخدامَ التطبيقاتِ الحكوميةِ والخاصةِ في معاملاتِه وفي ترفيهِه دون أن يفكَّر بأن عصرَه قد ولّى وأنها ( فاتت عليه ) وأنه لا بد أن يرمي بثقَلِه كله على شابٍّ من هذا الجيلِ فيستعملَه في ذلك العملِ ، بل هو يرى أنه طالما يعيشُ في هذا الزمانِ فلابد أن يجاريَه ويتعايشَ مع ما فيه من إمكانات ، وإلا فسيجدُ نفسَه أمّيّاً مهما كانت لديه من الشهاداتِ العلميةِ السابقة .

إذاً لا بد من مجاراتِ الزمنِ بمستحدثاته التي تخدمُ البشريةَ ولا تتعارضُ مع شرعِنا القويم حتى لا يفوتُنا قطارُ الزمنِ بكل عجلاتِه ثم نجد أنفسَنا حائرين في آخر الطريق لا نلوي على شيء في وقتٍ قد مضى فيه الناسُ إلى المعالي ودروبِ المعرفة . . يقول الشَّاعرُ أحمد الصَّافي النَّجفي :

يَجْري الزَّمَانُ فمَنْ لَم يَجرِ مُستَبقاً ..

أَمَامَهُ ، سَحَقَته أَرجُلُ الزَّمنِ .

ولذلك طالما أننا نعيشُ فلا يستوي أن نركَنَ للسكونِ فنعرقِلَ كلَّ عضوٍ في أجسامِنا بمحضِ إرادتِنا ثم نجدَ أنفسَنا وقد أوردناها للسكونِ العظيم ، فإذا لم يتحرّك الإنسانُ بكُتلتِه العضليةِ والعظميةِ والعصبيةِ ودورتِه الدمويةِ فكيف لها أن تتحرك بذاتها طالما أستمرأنا السكونَ وعمدنا إلى الراحةِ المطلقة ، يجبُ أن نمارسَ الرياضةَ مهما بلغَ بنا العمرُ ولو بأقل صوَرِها المتمثلةِ في المشي المتناسبِ مع العمرِ والصحةِ العامة ، حتى تنشُطَ الدورةُ الدمويةُ في أجسامِنا ولا تتجمَّدُ دماؤنا في عروقِنا من أثَرِ الركود ، وأن نجافيَ مراقدَنا وأرائكَنا وأهلينا لبعض الوقت فنسيرُ في الأرضِ ونتأمل هذا الكون العظيم ونتفكّر في خلقِ الله ، وهذا مما يجددُ النشاطَ وينعشُ المزاج ..

يقول الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله :

إني رأيتُ ركودَ الماءِ يُفسدُهُ ..

إن سارَ طابَ وإن لم يَجرِ لم يطِبِ 

والأُسْدُ لولا فِراقُ الغابِ ما افترَسَت ..

والسهمُ لولا فِراقُ القوسِ لم يَصِبِ .

لكم أحلى الأماني وأرقُّ التحايا .