الشروق
6:10
الإثنين 20 مايو 2024 م

عُرس ظافر

   بواسطة : محمد بن مصلح ( أبو مشاري ) 2023-07-10

عُرس ظافر

 

كتبه : أبو مشاري

---------------------

كان في عنفوانِ شبابِه حين أتى ظافر من الشام ( ذلك الأسم الجامع الذي كان يُطلَق على مدن المملكة التي تكون جهة الشمال عن المنطقة الجنوبية ) ، وكان مَجيئُه ذاك في أول ( مازونيّة ) له من عمله العسكري في الطائف .

وقد جَلَب معه بعض المستلزمات من غذاءٍ وكِساءٍ لأسرته التي تعيش في القرية معتمدةً بعد الله على الزراعة والرعي البسيط في كسب رزقها ، وأتى أيضاً بشيءٍ من المكاسي لكبار السن من الأقارب والجماعة ، كما أحضر معه بندقيّة ( نيمس ) ومحزمَها المليءَ بأحمر الشوك كان قد أشتراها مما جمعه من معاشه المتواضع .. وبعد مرور عدة أيام همَس والدُ ظافر له برغبته هو ووالدته بأن يتزوج من إحدى بنات القرية ، فبدأت الفكرة تتبلور لدى ظافر ، ثم جعل يخرج من حينٍ لآخر ويتجوّل في الوادي والمزارع ويختلس النظر لعله يرمُق ما يميل لها قلبه من بنات القرية اللاتي يعملن في الحقول مع أهليهن طوال العام فيذهب لأبيها ويخطبها ، فَكّر وفكّر .. ثم فكّر وقَدّر ، فأهتدى إلى أن يذهب لمعيَن الماء الذي يتوسط القبيلة وتجتمع عنده بنات القُرى ويملأن قِرَبهن من زلال مائه البارد العذب ، ذهب ظافر وألقى التحيةَ على البنات المتزينات بالكحل والحناء والمعاصب الصفراء ، وبحكم أنه أتى من الشام فقد توقّع أن من تمام التقدير أن يصافحهن بيده ، ولكن البنات أعتذرن عن قبول المصافحة فهن مربَياتٌ على الدين والحشمة والعُرف الجميل ، وحين سألهن عن إبائهن وولجَت إحداهُن إلى قلبه حَزَم أمره ثم غادر المكان وهو يترنم قائلاً :

وش مع البِيض لا مدّيت كَفّي ما يردّون ..

كنهم خايفاتن تاخذ الحنا يدَيّه .

قَفَل ظافر إلى البيت وقال لوالده ( فكّرت ياوَبه وودي اخطب بنت سعد بن صالح من علو اموادي ) ، قال أبوه توكلنا على الله ، بنسير نخطبها لك الليلة .

تمت الموافقة والمُلْكة وأقترب موعد الزواج ، وبعد صلاة الجمعة وقف أبو ظافر في المسجد وقال ( يا يماعة معنا عُرُسِن لولدي ظافر يوم الثلاثاء وودنا تزهّبون كلكم ، فأما أهل علو اموادي فيكونون ليت سعد بن صالح ضَحوَة ، واما أهل اسفل اموادي فمعنا ..

أشرَقَت شمسُ الثلاثاء وبدأ المستقبلون يتوافدون على بيت والد العروس وأقبل المعرّس ومن معه وقت الضُحَى يسلكون الطرق في أطراف المزارع وجَنَبات الوادي وهم يلبسون الثياب العريضة متوشحين بالفرود والمحازم والبنادق والجنابي كلٌّ حسب ما يملك ، وقتربوا من بيت العم سعد وشاهدوا المرحبين وهم يعرضون لإستقبالهم ، فبدأ القادمون يقرعون الأرض بأقدامهم ويعرُضون بعدما كانوا يسيرون سيراً عادياً ، ثم أمتزج الجميعُ في نسَقٍ واحدٍ وحَميَت العرضة في ساحة ( بَطينة ) مجاورة لبيت والد العروس في أجمل وأبهى مشهد وأحلى صوت ، وكانت بعض نساء القبيلة اللاتي يشاهدن العرضة من فوق السطوح وكذلك الشباب الصغار يرددون بهمس ( فين هو أمّعرّس منهم ؟ .. فين هو أمّعرّس ؟ ) كما هو الفضول المعروف في مثل هذه المناسبات .

يخرج أحد كبار السن من صَفّ العرضة وعمره قد تعدى الثمانين عاماً وعن يمينه أحد أبنائه وعن يساره إبنه الآخر والذَين كانا أيضاً في بدايات مشيبهما ويبدأ الثلاثة ( يذرّفون ) معاً في أبهى حركة وأجمل أجسام حتى يصلون إلى طرَف ( البطينة ) ثم يقذفون البنادق عالياً ويتلقفونها ويرمون بالرصاص في إحدى صخور الجبل المقابل للمكان ، وكانت أصوات البنادق يتردد صداها بين الجبال فكأنه هدير طائرات ، ثم يستديرون ويعودون يذرّفون والإبنان يصدحان :

شايبكم يا قحاطين ، شايبكم لا تخلّونه 

بعد العرضة قلّط العمُ سعد الجميعَ وتنعّموا من كثيرات الشحوم ، حينها خرج العريس ظافر من بيت عمه سعد وكان يحمل بندقيته المعروضة على كتفه الأيمن ويقبض تخشيبتها بكفه ، ويتوسط جسمَه محزمٌ ذو ألوانٍ زاهية مُتخَمٌ بالرصاص ، ويلف غترته على رأسه ومُثبّتٌ فيها باقةٌ صغيرةٌ مخلوطةٌ من البرك والريحان ، وتسيرُ وراءَه عروسُه التي كانوا قد هيأوها ( بالغرزان ) في طرفَي وجهها الوَضيء وكحّلوها وبخّروها ، ورشّوا عليها من عطور ( حبشوش وابو حنش ) وعصّبوها فوق جبينها بتلك العصابة ذاتِ الألوانِ الصافية ، وثبّتوا ( صمَادةً ) على شعرها الممشوط تعترض فوقه من اليمين إلى اليسار ، ولَبسَت ثوبَها الأسود الجديد المُكلّف بالتطريز الغزير بألوانٍ بديعةٍ في كُمّيه ونحرِه وجانبيه .

وصل العِرسان ومن كان يحيط بهما من الأطفال الفضوليين إلى بيت العريس وكان في إستقبالهما جَدة ووالدة وأخوات وقريبات وجارات العريس ، فتقدمَت الكهلة زرعة جدة العريس في الحوش وجعلت ترحب بالعروس بصوتٍ مرتفع ( أرحبي .. أرحبي .. أرحبي يا بنت سعد .. طلعتي من بيت مَطلَقن إلى بيت مَطلَق .. السعة قبلج والضير خلفج ، الله يحييج عدَاد ما مشيتي مرحباً لي .. مرحباً لي يَناه )  ثم بدأ النسوة يلعبن إحتفاءً بالعروس وأنقسمْنَ إلى صفّين متقابلين يغنّين بالصوت ويصفّقن بكفوفهن المزيّنة بالحناءِ والخواتمِ والحبايسِ والمفاردِ التي تحيط بمعاصمهن ، هناك تقدمَت إحدى جارات العريس وأشارت بيدها أن لديها قصيدة ، وفعلاً أمتدحت بنتها الشابة الجميلة التي تُزيّن أحد الصفين كعادة النساء في مدح البنات الشابات ببيتٍ تقول فيه :

يا لا له تلمّحوا يا عرب في زِين صِفريّة ..

يا لا له مليحة الرًسم واما اللون مَصريّة

فتوَسطَت سعدى أم ظافر الصفين ونَظَمَت لهن بيتاً تمدحهُن فيه جميعاً قائلةً :

يا لا له سَوَى سَوَى يا غَرسْ ما فيكم الخيرة ..

يا لا له ما مثلكم في صبايا الشام والديرة 

 

أما رجال الجماعة فبدأوا يُكثّرون في الخير وينظّمون الصف ليخرجوا عرّاضة من بيت سعد بن صالح ، وأستأذن أحدُ الشعراء المقربين للعريس أهل البيت بقصيدةٍ يقول فيها :

كثّر الله خيركم فِنّا قبيلة ..

واقعدوا فالعافية وفي الستور 

يوم خُذنا مِشْخَصِن بَعدَن وَلٍيله ..

خُذناهو من حارتن ومن القُصور .

فودّعهم شاعرٌ آخر من قرية العروس قائلاً :

في وَيه ربي يا مفيّرة النحور ..

والله يثبّت ما تلي من وقتنا 

من يوم جانا حكم دولة بن سعود ..

ما غَرّنا ذا باع فينا واقتنا

وفي المساء بدأ جميعُ أفرادِ القبيلةِ بالتوافدِ على بيتِ أبو ظافر لحضور وإحياء مناسبة عشاء العرس كالعادة ، وبعدما تناولوا طعامَ العشاء وقدّموا مبلغ النفعة المتعارف عليه للعريس أستأنف الرجالُ العرضةَ والسمَرَ الجميلَ في أحلى بهجة وأطيب نفوس وهم يرددون أزكى التبريكات للعريس وعروسه بالتوفيق والسعادة والرزق والذريّة الصالحة ، بينما في جانب النساء أشتعل اللعبُ في سعادةٍ غامرة . 

أما ظافر وعروسُه فقد أختفيا فجأة من المشهد .    

 هكذا كان عُرس قريتي ذات زمان .